عبد السلام انويكًة : بين تازة والعيون الفقيه الشنقيطي بين رمزية مقاومة وتقديم متون مقال حول المجاهد الشيخ محمد المامون الشيخ محمد فاضل
لا شك أن استراتيجية التوغل الفرنسي الاستعماري في المغرب مطلع القرن الماضي انبنت على أسس فزيائية وبشرية تباينت أهميتها من منطقة لأخرى. فعلى مستوى ممر تازة الشهير بوابة شرق البلاد على غربها تأسست خطة أطماعها في احكام سيطرتها عليه الفرنسية بناء على ما كان عليه من أدوار طلائعية فيما شهده المغرب تاريخياً من وقائع سياسية وعسكرية، ولعله ممر بموقع متفرد وبنية جبال ومجاري مائية استوطنته قبائل بتقاليد حربية جعلتها دوماً بردود فعل كلما دعت أحوال البلاد الأمنية والسياسية.
وعلى إثر ما شهدته المنطقة عموماً من تطورات منذ أواخر القرن التاسع عشر، تقوت رغبة قبائلها من غياتة وبرانس واتسول في مواجهة الأطماع الاجنبية خاصة الفرنسية، مما سمح بزعامات أبانت عن نفوذ محلي فقادت مقاومة أجبرت قوات الاحتلال على إعادة النظر في خطط توغلها وتجنيد موارد هامة قبل بدء عملياتها. ولم يكن البعد الديني غائباً في ردود فعل هذه القبائل وهذه الزعامات معاً، بل بأثر في قوة شعور بواجب جهاد والتفاف وتجاوز للخلاف.
شروط وغيرها سمحت بثقة قبائل المنطقة في زعامات كلما كانت تظهر بعدم انسياقها مع كل تقصير في الجهاد مع تهديدها وعرقلتها للاحتلال، كلما كان يزيد نفوذها المعنوي لدىها ويتقوى نزوع المقاومة معها. ولعله ما كان وراء تتبع الإقامة العامة الفرنسية الاستعلامي لإضعاف من كانت تعتبرهم آليات عصيان، وفتيل مقاومة ومصدر خطر على أمن البلاد واستقرارها.
وإذا كانت ألمانيا قد اعتبرت هذه الزعامات أداة لإضعاف فرنسا من خلال دعمها سياسياً ومادياً فقد اختارت هذه الأخيرة نعت هؤلاء بالمنشقين والمتمردين، وكان ليوطي بتخوف كبير من وحدة القبائل وتجاوزها لنزاعاتها تحت نفوذ هذه الزعامات، وعليه استهدفت قواته تقسيمها بشكل ممنهج ببث الفرقة بينها. ولعل من زعامات مقاومة هذه الفترة بهذا المجال من أعالي حوض ايناون حيث تازة وممرها نذكر الفقيه الشنقيطي رحمه الله (محمد المامون) منذ 1910، الذي بعد إقامة له بفاس انتقل الى تازة في طريق عودته الى الصحراء فحصل تأثره بأهلها وقبل بالتدريس بها ومقاومة الأطماع الأجنبية منها. وعلى اثر اصابته بجروح في إحدى عملياته بالمنطقة سنة 1913، تمت مبايعته سلطانا للجهاد من قِبل اكًزناية وبني وراين ومطالسة والبرانس وغياتة والتسول…، فكان يوقع رسائله ب.”سلطان ملوية وتازة والنواحي”. وقد تحمل الفقيه الشنقيطي دور الجهاد بإيعاز من الزاوية الدرقاوية بتازة مما يدل على ما كان للصوفية من دور جهادي بالمنطقة، والتي لم تكن أنشطة الشنقيطي فيها غائبة عن سلطات الحماية، بدليل حديث صحافتها عما كان عليه من التفاف قبلي وشعبية واصفة إياه بالفتان المتلقي للدعم من جهات أجنبة.
وبخلاف ما كان يروج ويروج له حول وفاته أقام الفقيه الشنقيطي بمدينة تازة منذ ماي1913، وخوفاً من الثورة عليه دخل في مفاوضات مع اسبانيا بقصد اللجوء إليها. وكانت فرنسا تأخذ أنشطته بجدية كبيرة لمِا كان يقوم به من إعداد القبائل للمقاومة، فقد أوردت أنه رفع ضريبة الحرب على القبائل وسرح قوات أتباع من ثمانية آلاف واجهها الجنرال Alix في ماي1913، محتفظاً فقط ب800 فارس ومعتمداً على وعوده في الانتصار لكسب ثقة قبائل المنطقة. وكانت الأوساط الفرنسية قد تلقت خبر إلتفاف قبائل تازة حول الفقيه الشنقيطي بأسف شديد، ما اعتبرته خطراً حقيقياً وخاصة مع دعم الزاوية الدرقاوية له. ونظراً لمِا كان عليه الفقيه الشنقيطي من أخلاق ومعرفة فقد اعتُمِد في توجيه وإرشاد القبائل من خلال التحكيم بينها، وبعد مبايعته استقبلته قبيلة مطالسة واكًزناية وولاد بوريمة ومغراوة في منطقة سيدي بلقاسم. وعندما انضمت إليه كافة قبائل منطقة تازة دفعته لمواجهة القوات الفرنسية للتأكد منه.
وقد تمكن الفقيه الشنقيطي بتازة من تكوين قوات عن قبيلة مطالسة وولاد بوريمة واكًزناية، كما انضمت إليه قبائل البرانس واتسول وغياتة التي قبلته زعيماً لمِا حققه من انتصارات، فبايعته على تازة التي اتخذها عاصمة واختار بها أحمد بنصاري خليفة، بناء على ما تميز به من دهاء ونفوذ مستفيداً من تجربته مع الفقيه الزرهوني الروكًي كأحد أهم مرافقيه. ومنذ ربيع 1913 واجه الفقيه الشنقيطي القوات الفرنسية شرق تازة ضد فرق الجنرال Alix و Trumelet FaberوGirardot، ونظرا لعدم تكافؤ القوة تعرض لهزائم أضعفت مكانته الاعتبارية اضطر على اثرها للعودة الى تازة في غشت من نفس السنة.
وكانت التعبئة الفرنسية وحشد الجنود وآلاف المغاربة للقتال بأروبا بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، بأثر كبير في إضعاف قدراتها وإفراغ مناطق حديثة الاحتلال بالمغرب. ما استغلته ألمانيا لتحريض القبائل وخلق الاضطراب خاصة على الحدود بين منطقتي النفوذ الإسباني والفرنسي، بواسطة متعاونين كان الفقيه الشنقيطي أحدهم متلقياً دعمها لدفع القبائل للمقاومة طيلة الحرب وإلى غاية 1925.
وعندما قرر مواجهة التوغل الإسباني والفرنسي سقط أسيراً وأخلي سبيله من طرف الفرنسيين بعد إعلان الأمان، ليستقر مجدداً بتازة سنوات الثلاثينات قبل اتخاده قرار العودة الى الجنوب. وبسبب دعم قبيلة البرانس له ومهاجمتها لقوافل التموين عند مرورها بواد لحضر الشهير وهو أحد روافد وادي ايناون بالمنطقة. قامت القوات الفرنسية بحملة ضدها سنة 1915 سمحت للعقيد Bilaux ببلوغ جبال بين مكناسة الفوقية والتحتية، لكن معاناة قواتها من الجنود السينغاليين بسبب شدة البرد والأمطار كانت بأثر كبير على توقف العمليات.
وبالمجال الفاصل بين تازة وواد أمليل في يناير من السنة نفسها، في وقت كانت فيه القوات الفرنسية بصدد استراتيجية دفاعية لأسباب سياسية، تعرضت احدى قوافلها العسكرية لهجوم من قِبل الفقيه الشنقيطي قرب واد لحضر، ترتب عنه فقدان القوات الفرنسية لثلاث جنود وجرح أربعة عشرة آخرين. بل انعدم الأمن منذ بداية التوغل الفرنسي بهذه المنطقة بسبب ما أثاره هذا الأخير وأتباعه من رعب. وقد ظل الفقيه الشنقيطي يتنقل بين قبائل هذه الأعالي محرضاً على الجهاد معتمداً على أسلوب استنزاف مؤثر على توغل القوات الفرنسية باتجاه تازة، ما دفع هذه الأخيرة لتغيير استراتيجية تدبيرها للوضع باستقدامها ضباط أكثر تجربة. وبعد احتلال تازة ولوقف جيوب المقاومة قام الجنرال بومكًارتن بحملة عسكرية بشمال تازة مستهدفاً، تخريب قواعد الفقيه الشنقيطي بمنطقة عين كرمة بتراب قبيلة البرانس وتشتيت أتباعه.
وفي رسائل منسوبة لمولاي عبد الحفيظ يظهر أنه كان بأمل كبير في عودته للمغرب، بالنظر لما كان له من اتصال بزعامات المقاومة في كل جهات البلاد ومن سؤال عن أحوال البلاد والمقاومة والقبائل، كما بالنسبة لتازة وخاصة الفقيه الشنقيطي الذي كان على اتصال بالألمان. والاستخبارات الفرنسية التي قللت من أهمية هذا الأخير الذي كان بنفوذ قوي عند القبائل، تحدثت عن أهمية الحذر من شدة الأخطار وعن قلة حماس القبائل في علاقتها بالشنقيطي لتنظيم هجمات على قواتها. بل قالت بأن قبيلة اتسول كانت تساعد حماية قوافلها بين واد أمليل وتازة. وكان نشاط الشنقيطي في المقاومة وراء برمجة القوات الفرنسية لعدة عمليات عسكرية، كتلك التي قادهاDerigoin بواسطة فرقة تازة المتنقلة، تلك التي توجهت لمنطقة أحمد زروق بقبيلة البرانس شمالاً.
يذكر أن الفقيه “الشنقيطي” الذي يعد ذاكرة وطنية ومحلية في علاقته بتازة وقبائلها وأعاليها بعد فرض الحماية على البلاد، هو من مواليد سبعينات القرن التاسع عشر بموريطانيا تلقى تكوينه بزاوية والده حيث تمكن من القرآن والفقه والتفسير والأصول والبلاغة…، قبل أن يشد رحاله الى سمارة ثم فاس مطلع القرن الماضي. وبعد رحلة قادته الى المشرق لتأدية فريضة الحج استقر بتازة للتدريس بجامعها الأعظم ومدرستها العتيقة، ولعلها المدرسة المرينية التي لاتزال شامخة بمشور المدينة.
والى جانب ما أسهم به من مقاومة للاحتلال الفرنسي لسنوات بعد احتلال تازة، ورد أنه شارك في ثورة الريف بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي ضد الاحتلال الاسباني. قبل القاء القبض عليه بورغة قرب فاس 1925 من قِبل السلطات الفرنسية، وقبل اطلاق سراحه وعودته الى تازة من أجل التدريس ليختار فيما بعد التوجه الى سوس 1930 ومنها الى العيون 1934، ليظل معتكفاً على العلم والزهد والعبادة بزاويته حتى وفاته 1966، بحسب ما أحيط به من دراسة تحدثت عن ذاكرته بتازة وسنواتها الحرجة بعد احتلالها 1914، وعما ساهم به في معارك منها معركة التسول وبومهيريس والبياضة وجبل تازكا وديروش وجبل العلاية بالبرانس وغيرها.
تبقى المقاومة التي قادها الفقيه الشنقيطي رحمه الله بتازة ومحيطها شمال المغرب بطابعها العفوي إن صح هذا التعبير تاريخيا ومفاهيميا، بقدر ما كان أسلوبها بتأثير قوي لارتباطه بشعور وطني عميق وعدم اقتصاره على جهة دون أخرى، بقدر ما أبان عن عدم رضى البادية المغربية وقبائلها بما كانت عليه البلاد مع فرض الحماية. فكانت مقاومة القبائل أمراً واقعاً اتخذت من الجهاد شعاراً عوض قبولها بأمر واقع، دون نسيان ما كان لإندلاع الحرب العالمية الأولى من أثر في إرباك توغل القوات الفرنسية بممر تازة، والتفاف القبائل حول زعامات كما حصل مع الفقيه الشنقيطي رحمه الله لفترة من الوقت، والتي رغم قلة وبساطة امكانات القتال وضعف التنسيق كانت رمزية كبيرة ووطنية ووطن.
عبد السلام انويكًة
قائد فذ ولربما ظلمناه وظلمه معظم المؤرخون في الفقه الشرعي وفقه البلاغة اللغوية و كتاب التاريخ.
هذا الرجل يعتبر مادة علمية واعلامية قل نظيرها في مجتمع الشناقطة ،كأمثال (((ولد اتلاميد وغيره من النوادر)))
رحمه الله وأذاقه ما في العلم والادب والجهاد من حلاوة